حتى وقت قصير، كان العالم يثق في كرة القدم، وينزهها باعتبارها لعبة رياضية، ظاهرها التنافس، وباطنها كثير من القيم النبيلة: التعارف بين شباب العالم، والتحابب والتآزر بين الشعوب.. لقد استيقظ عشاق المستديرة خلال الأسبوع الماضي على فضيحة «آسيا غايت»، حيث كشفت الشرطة الأوروبية عن تورط عصابة بالتلاعب بنتائج المباريات، تتخذ من قارة آسيا مقراً لها، وتحديداً بسنغافورة.
المتهمون ليسوا مجرمين فحسب، وإنما لاعبون وحكام ومسؤولون في أندية أوروبية كبيرة، وعددهم 425. قضية هزت أوروبا والعالم، وزعزعت صورة كرة القدم، وأعلنت رسمياً في قناعة الجماهير، موت القيم في اللعبة الشعبية الأولى في العالم.
فطالما اعتبر مشجعو الكرة أن ما حصل من تلاعب في الماضي مجرد أحداث عابرة ومنعزلة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالغش في 700 مباراة خلال موسم واحد، فإن كرة القدم تكون قد نزعت ثوبها الجميل، وتخلت عن الأخلاق، وخدعت القيم.
وما يؤلم ويخدش الحياء، ليس عصابة التلاعب من المجرمين والمقامرين، بل تواطؤ عدد من نجوم اللعبة وحكامها والمسؤولين في أندية، طمعاً في المال والكسب غير المشروع. لم تكفهم الشهرة العالمية والرواتب المليونية، وباعوا شرف كرة القدم لعصابات إجرامية، تتخذ من سنغافورة مقراً لها، ولأوروبا مسرحاً لتنفيذ الجريمة.
حينما يمنح حكم ركلة جزاء لفريق ما، أو يلغي هدفاً شرعياً لفريق آخر، حتى يخرج المباراة بالنتيجة التي اتفق عليها مسبقاً مع مجموعة التلاعب والمراهنات، فذلك تغيير للتاريخ، وكتابة فصول مغلوطة ومزيفة بحبر الظلم. بل في ذلك اغتيال لقيم الرياضة، وخذلان لميثاقها وغاياتها النبيلة.
الإنجليز أول المتلاعبين
التلاعب بنتائج المباريات ليست بدعة إجرامية ابتدعها الإنسان في القرن الحادي والعشرين، وإنما تاريخها ضارب في القدم، عمرها حوالي قرن من الزمن، حيث قرر 4 لاعبين من ليفربول و3 من مانشستر يونياتد عام 1915، التحكم بمباراة، في خطوة من شأنها إنقاذ الشياطين الحمر من خطر الهبوط.
فقد كان مانشستر يونايتد يواجه صراعاً كبيراً لتفادي السقوط إلى الدرجة الثانية، بينما يحتل ليفربول مركزاً في منتصف الترتيب، وبالتالي اتفق المتلاعبون من الفريقين بتسهيل فوز يونايتد في المباراة التي جمعت بينهما على ملعب أولد ترافورد، وفعلاً فاز فريق الشياطين بهدفين لصفر، لينجو من الهبوط، بينما سقط توتنهام. غير أن فوز مان يونياتد أثار الشكوك، وجعل التحقيق يبحث في طيات الفوز، وينبش التاريخ بحثاً عن الحقيقة لينكشف التلاعب، وكانت فضيحة مدوية هزت الكرة الإنجليزية.
عصابة محترفة
وبتقدم الزمن تطورت أساليب التلاعب، حتى أخذت شكل الجريمة المنظمة، وتفاقمت الظاهرة بعد ظهور لعبة الرهانات الرياضية في أوروبا، والمتمثلة في التكهن بنتائج المباريات مسبقاً، والحصول على مبالغ مالية كبيرة في حال التوصل إلى توقعات صحيحة. وتتم المراهنة عبر قصاصات تباع في المحلات أو عبر الإنترنت.
ودفع حب الكسب المادي السريع إلى تجمع عدد من المتراهنين سراً للتراهن بصفة مشتركة في شكل مجموعات صغيرة أولاً، قبل أن تتكتل لاحقاً في شكل عصابات.
واستغلت هذه المجموعات التطور التقني لتعتمد على وسائل الاتصال الحديثة من هواتف متحركة وإنترنت وآلات طباعة لتقترب بكل شجاعة من مسرح لعبة كرة القدم، وتربط علاقات مع الأطراف الفاعلة فيها، من حكام ولاعبين ومسؤولين، وتعرض عليهم مبالغ مالية كبيرة مقابل التلاعب بنتائج المباريات، حسب ما يناسب التكهنات التي اعتمدوها في مراهناتهم.
العصابة تخترق أوروبا
وفي غفلة من العالم الذي ينشغل بهموم السياسية ومشاغل الحياة، امتدت يد العصابة إلى 15 دورياً أوروبياً، بل طالت يداها النجسة بالغش، مباريات دوري أبطال أوروبا، المسابقة الشعبية التي تمتع جماهير الكرة، وحتى مباريات تصفيات كأس العالم، لم تسلم من التلاعب.
ولئن توصلت الشرطة الأوربية التي تتخذ من لاهاي مقراً لها إلى فك شفرة العصابة وحددت الدول التي تم اختراق دورياتها وقبضت على 50 متورطاً من مجموع 425، فإن جوزيف بلاتر، رئيس الفيفا أعلى سلطة في عالم كرة القدم، خرج للعالم بتصريح مثير، إذ قلل من خطر التلاعب، واعتبره محدوداً، على الرغم من إقراره بأن 700 مباراة يتم التلاعب بنتيجتها سنوياً.
وفي المقابل، وقف الرياضيون في دهشة وذهول أمام عصابة الغش، حتى إن أرسين فينغر مدرب أرسنال وصف الظهارة بإعصار تسونامي.
ويبقى الخطر يهدد لعبة كرة القدم، طالما أن دولاً كثيرة في العالم لا تتوفر بها قوانين رادعة لضرب المتلاعبين من عصابات ولاعبين وحكام ومسؤولين.